مقال لي نشر في جريدة القدس العربي اللندنية.

من هنا إلى الأبدية: حين يتداخل الواقع والدراما في رواية فيلمية ناجحة

يمثل الفيلم السينمائي أفكارا تثير مشاعر المشاهد.. وتشير شهرة الفيلم إلى أفكار دفينة في عقل عدد كبير من المشاهدين. وقد يكون فيلم «من هنا إلى الأبدية» From Here to Eternity (1953) من أفضل الأمثلة لهذا، فقد كانت الأفكار التي طرحها، هي أحد أسباب شهرته ونجاحه غير العادي من النواحي الفنية والإعلامية. وكان البداية الحقيقية لموضوع تناولته السينما الأمريكية عدة مرات على شكل أفلام ذاع صيت بعضها.

أحداث الفيلم

يُنقَل الجندي الأمريكي «روبرت بريوت» (مونتغومري كلفت) إلى سرية جديدة في أحد المعسكرات الأمريكية في جزيرة هاواي. وكان «بريوت» ملاكما محترفا قبل تطوعه في الجيش، إلا انه أصاب أحد أصدقائه إصابة بالغة أثناء التدريب، فقرر ترك الملاكمة إلى الأبد. ولكن قائد السرية لتي انتقل ليها كان النقيب «هولمز» الذي كان أيضا مدربا للملاكمة، اعتمد على نجاح فريق السرية للملاكمة كطريقة للحصول على الترقيات. ولذلك، ساعد الجنود الملاكمين في السرية على الترقي في رتبهم. ولكن النقيب انزعج من رفض الجندي «بريوت» الانخراط في فريق السرية، فأمر الجنود الملاكمين بمعاملته بطريقة بالغة السوء. وفهم «بريوت» المكيدة، ولكنه قرر دم تغيير رأيه مهما حاولوا. ويعطف نائب الضابط (رقيب أول في بعض الدول العربية) «ملتن ووردن» (برت لانكستر)، الذي كان يعتمد النقيب عليه بشكل مبالغ فيه في إدارة السرية، على «بريوت» فيحاول التخفيف من ضغط النقيب عليه. ولم يكن لدى «بريوت» سوى صديق واحد في المعسكر، هو الجندي «انجلو ماجيو» (فرانك سيناترا).

ينضم الجنديان الصديقان «بريوت» و»ماجيو» إلى ناد اجتماعي، فيه حانة تديرها امرأة، وتعمل فيها نساء، للتحدث مع الجنود والتخفيف من همومهم. ويتعرف «بريوت» على «لورين»، إحدى العاملات في ذلك النادي، ويكشف لها عن مشاكله بينما تبلغه هي أنها ليست من هاواي، بل تعمل في ذلك النادي لجمع المال ثم العودة إلى منطقتها كي تعيش حياة كريمة. وسرعان ما يحصل جدال بين «ماجيو» ورئيس عرفاء سجن المعسكر «جدسن السمين» المعروف بساديته. والتقى الاثنان في أحد المقاهي، فحاول «جدسن» إهانة «ماجيو» وأشهر في وجهه سكينا، إلا أن نائب الضابط «ووردن» أوقف المواجهة.

في هذه الأثناء يبدأ نائب الضابط «ووردن» علاقة غرامية مع «كارين» (دبرا كار)، زوجة النقيب «هولمز»، على الرغم من منع هذا من قبل قوانين الجيش الأمريكي. وسرعان ما يكتشف «ووردن»، أنه لم يكن الأول فقد كانت كارين قد صادقت عدة أشخاص. وتشرح له «كارين» أن زوجها سكير ويخونها منذ بداية زواجهما، وأنه سبب عقمها، كما تطلب منه أن ينخرط في دورة الضباط كي يصبح ضابطا وتستطيع الزواج منه، ولكن «وورن» يعترض لاحتقاره للضباط.

تعطي قيادة السرية واجبا إضافيا لـ»ماجيو» إلا انه يهرب إلى النادي الاجتماعي. ولكن الشرطة العسكرية تلقي القبض عليه ويزج به في سجن الجيش، حيث يتعرض للتعذيب السادي لرئيس العرفاء «جدسن السمين» مما يثير غضب «بريوت». يقوم أحد الجنود الملاكمين في الوحدة بمهاجمة «بريوت» دون أن يحاول أحد وقف القتال، على الرغم من مشاهدة القادة له. وفي نهاية المطاف تغلب «بريوت» عليه وأفلت من العقاب، بعد أن شهد الجنود أن الجندي الملاكم كان المعتدي. هرب الجندي «ماجيو» من السجن وهو في حالة مزرية بسبب المعاملة السادية لـ»جدسن» ويلتقي صديقه «بريوت» إلا أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيه. يغضب «بريوت» مقررا الانتقام، فيتواجه مع «جدسن» في معركة بالسكاكين تودي إلى مقتل «جدسن» إلا ان «بريوت» يصاب بسكين خصمه، فيلجأ إلى «لورين» من «النادي الاجتماعي» التي تخفيه في مسكنها.. ولا يعود إلى المعسكر، كما أن نائب الضابط «ووردن» لا يبلغ القيادة عن غيابه.

تكتشف قيادة الجيش مكيدة النقيب «هولمز» ضد الجندي «بريوت» فتأمره بالاستقالة ما يعني مغادرته هاواي. وتبلغ «كارين» عشيقها نائب الضابط «ووردن» بذلك، فيوعدها بأنهما سيلتقيان في المستقبل. ويُعين نقيب جديد لقيادة السرية وتُلغي جميع امتيازات الجنود الملاكمين. يبدأ الهجوم الياباني على ميناء «برل هاربر» ويقرر الجندي «بريوت» الالتحاق بوحدته، على الرغم من اعتراض «لورين»، إذ ما يزال مصابا. ويحاول «بريوت» سلك طريق خلفي إلى المعسكر، الا أن الحرس يطلقون النار عليه ويردونه قتيلا. وعندما تأتي قيادة المعسكر إلى مكان الحادث يتأسف نائب الضابط «ووردن» ويصفه بأنه من أفضل الجنود.

تلتقي «كارين» بـ»لورين» على متن السفينة المغادرة لهاواي وتقول «لورين» إن خطيبها الضابط الطيار «بريوت» قُتل في الهجوم الياباني، وتنظر «كارين» إليها غير مصدقة لأن عشيقها «ووردن» أخبرها الحقيقة.

ملاحظات عن الفيلم

كان اسم الفيلم مأخوذا من قصيدة كتبها الشاعر البريطاني رديارد كبلنغ عام 1892 عن فئة معينة من الجنود البريطانيين يتميز أفرادها كونهم من أصول راقية، إلا أنهم لا يصبحون ضباطا كعادة أبناء الطبقة الراقية، بل يخدمون مع الجنود ذوي الأصول غير الراقية في الجيش البريطاني لسبب ما، وأصبحوا في جحيم لا مفر منه. أما الفيلم، فكان مأخوذا من رواية شهيرة للكاتب الأمريكي جيمس جونز نشرها عام 1951، وتكونت من ثمانمئة وستين صفحة، وكانت أولى أعماله. وباع المؤلف حق تصوير الرواية لشركة كولومبيا للأفلام السينمائية بمبلغ اثنين وثمانين ألف وخمسمئة دولار. وقد استلهمت أحداثها من تجربة الكاتب الشخصية، حيث كان جنديا في الجيش الأمريكي في هاواي في أربعينيات القرن العشرين.

لاقت الرواية نجاحا أدبيا وتجاريا كبيرا، حتى إنها تعد إحدى أهم الروايات في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين وأدهشت القراء لكشفها عن واقع مرير يعيشه الجنود الأمريكيون في معسكراتهم وقت السلم. وحصل خلاف بين المؤلف والناشر، لأن الثاني رفض نشر الرواية، إلا إذا قام الكاتب بحذف أجزاء من الرواية حول بعض الأعمال غير القانونية، التي كان يمارسها بعض الجنود في الرواية. وأثار ذلك سخط المؤلف الذي أصر على أنه كتب في الحقيقة ما شاهده بنفسه أثناء خدمته في الجيش. وقد يكون اعتراض الناشر لسببين، أولهما أنها دعاية غير جيدة، وثانيهما وجود قوانين تمنع البريد الأمريكي من نقل أي منشورات إباحية، ما يعني استحالة توزيع الرواية في جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم. وكنتيجة للسبب الثاني كان الأدباء الأمريكيون مثل أرنست همنغواي يتجنبون التفاصيل الإباحية في أعمالهم الأدبية. وفي نهاية المطاف انتصر الناشر في جداله مع الكاتب ونشرت الرواية لتحصل على شعبية غير عادية، حتى أصبحت إحدى أشهر الروايات في تاريخ الولايات المتحدة.

واجه الفيلم مشاكل أخرى، فللحصول على مساعدة وزارة الدفاع الأمريكية في انتاج الفيلم اضطر القائمون على الفيلم أن يغيروا الكثير من التفاصيل، فمثلا لا تعمل «لورين» في ناد اجتماعي في الرواية الأصلية، بل كانت عاهرة تعمل في مبغى محلي، بل لا يوجد ناد اجتماعي من هذا النوع في الولايات المتحدة. وكانت «لورين» في الرواية قد وقعت في حب شاب من عائلة ثرية، إلا أنه هجرها ليرتبط بفتاة من مستواه الاجتماعي، ولذلك، فإنها تذهب إلى هاواي البعيدة كي تعمل في مجال الدعارة وتجمع المال، ثم تعود إلى ديارها لتعيش حياة مرفهة وتتزوج شابا من عائلة مرموقة، دون أن يعلم أحد بحقيقة عملها السابق. أما «ماجيو» فلا يموت في الرواية، وكذلك النقيب «هولمز» الذي لا يجبر على الاستقالة بل يحصل على ترقية ويبدو إجباره على الاستقالة في الفيلم غريب لعدم وجود شكوى ضده صلا من قبل الجندي «بريوت». ولهذا السبب كان على المخرج توضيح ذلك وأشياء أخرى ظهرت في الفيلم بشكل لم يتناسق مع تطور الأحداث.. ولهذا السبب، كان ادعاء «لورين» في الفيلم أن خطيبها «بريوت» كان ضابطا طيارا بدا مفاجئا وغير ضروري، ولكنه كان واضحا في الرواية، أذ أنها كانت تحاول دائما إعطاء الانطباع بأنها ن أسرة مرموقة.

على الرغم من شهرة الرواية الأصلية، فإن الفيلم أثار موجة متصاعدة من الاهتمام بها، حيث تساءل كثيرون عن الاختلافات بين الفيلم والرواية، لاسيما أن عدد المشاهدين للفيلم كان أكبر من عدد قراء الرواية بكثير. ويشير هذا إلى تأثير الفيلم على الرأي العام، إذ أنه يفوق تأثير الكتب.

كان من الممكن لهواة السينما الجادين توقع نهاية الفيلم، إذا أخذ بنظر الاعتبار القوانين والمفاهيم المتبعة في خمسينيات القرن العشرين، فلا يمكن أن تتزوج «كارين» عشيقها «ووردن» لأنهما خالفا قانونا مهما في الجيش الأمريكي، يمنع هذه العلاقة أصلا، وإلا فإن الفيلم سيشجع على مخالفة هذا القانون. وكذلك كان من المستحيل أن يتزوج الجندي «بريوت» عشيقته «لورين»، فمن غير اللائق أن يتزوج جندي عاهرة، أما مقتل «بريوت»، فكان محتوما لأنه قتل جنديا.

تعاونت الشركة المنتجة مع وزارة الدفاع بشكل مثمر في مجال إخراج الفيلم حيث سمح لطاقم الفيلم بالتصوير في معسكر حقيقي، كما زودتهم الوزارة بمعدات كثيرة وأفلام عن الهجوم الحقيقي لليابانيين على ميناء برل هاربر. وفي المقابل احتاجت الشركة المنتجة على موافقة وزارة الدفاع على الرواية والسيناريو. كان أداء المخرج وجميع الممثلين ممتازا، لاسيما الممثل أرنست بورغناين، حيث ساعده على ذلك مظهره الشرس وكذلك كونه جنديا سابقا في البحرية الأمريكية. ولكن فرانك سيناترا كان في الثامنة والثلاثين من عمره بينما كان واضحا أن الدور لشاب في أوائل العشرينيات. وأما مونتغومري كلفت، فكان واضحا أنه ليس ملاكما بسبب مظهره الرقيق وغير الرياضي كما أنه كان أكبر سنا من الشخصية التي أداها. ويستحق الممثل برت لانكستر الثناء لإجادته دوره ببراعة مستفيدا من خبرته كجندي في الجيش الأمريكي. وكان مشهد القبلة الذي جمعه مع «دبرا كار» (كارين في الفيلم) على الساحل من أشهر المشاهد الرومانسية في تاريخ السينما الأمريكية. ويقال إنه كان نتيجة اقتراح من برت لانكستر نفسه، ولم يكن بطل ذلك المشهد الرومانسي فحسب، إذ كان بطل مشهد شهير آخر في هذا الفيلم عدما وقف بين فرانك سيناترا وأرنست بورغناين في مشاجرتهما في المقهى.

كان أسوأ اختيار للممثلين يتمثل في الممثلة دونا ريد، التي لم تبدو كعاهرة أو فتاة تعمل في «ناد اجتماعي» على الإطلاق، بل سيدة من المجتمع الراقي، وربما كان ذلك مقصودا من قبل المخرج لإظهار أن الجندي الطيب يتبادل الحب مع لمرأة تليق به. ولكن القائمين على الفيلم تجاوزوا حدود المنطق عندما جعلوها لا تشرب الكحول في الفيلم، بينما هي تعمل في حانة.

تميزت جميع المحادثات الرومانسية بين الرجال والنساء في الفيلم بسوء الأدب تجاههن. وليس السبب صفة في الرجال الأمريكيين، بل محاولة ساذجة من قبل المؤلف وكاتب السيناريو لكشف الكثير من المعلومات ومشاعر الشخصيات للمشاهد على حساب المنطق. من التفاصيل المضحكة عن الرواية والفيلم أن ثلاثا من الشخصيات فيهما كانت مأخوذة من أشخاص حقيقيين، فقام أحدهم برفع قضية على دار النشر والشركة المنتجة للفيلم. يمثل ها الفيلم بداية نوع جديد في صناعة السينما حول الحياة القاسية للجنود الأمريكيين في الجيش الأمريكي، مع عدم إيلاء الجانب الوطني اهتماما واضحا. وقد انتجت عدة أفلام شهيرة حول هذا الموضوع بعد ذلك، مثل فيلم «فصيل» Platoon (1986) وفيلم «سترة معدنية كاملة» Full Metal Jacket (1987) و»مولود في الرابع من يوليو» Born on the Fourth of July (1989).

من الجدير بالذكر أن الفيلم نال ثماني جوائز أوسكار، ومنها جائزة أفضل ممثل ثانوي لفرانك سيناترا، وجائزة أفضل ممثلة ثانوية لدونا ريد.

زيد خلدون جميل

باحث ومؤرخ من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *